السبت، 12 يونيو 2010

في حضرة تريم

في حضرة تريم
بقلم : مرعي حميد
كانت الأشواق تحدوني و البيجو الذي امتطي صهوته ينهب الأرض وصولاً إلى سيؤن ومنها وفي بيجو آخر إلى وجهتي : تريم التي دشنت في السابع من مارس المنصرم ، عن استحقاق وجدارة ، عاصمة للثقافة الإسلامية للعام الجاري 2010 م ، في البيجو الذي اقلني من مدينة سيؤن تجاذبت أطراف الحديث مع ( أبو علوي ) احد أبناء الغناء تريم ، سألته : هل هناك فرق بين تريم قبل التدشين و تريم بعده ؟ فقال لا يوجد فرق، وأضاف : جابوا فلوس من حق المتضررين من السيول وعملوا بها في تريم ، وحين وصلت تريم وجدت الفرق، والكلام عن مليار انفق من أموال التعويضات لا ينكره مسئول ، وأخشى ما أخشاه أن يصرف مليار ثاني من الموازنة العامة للدولة باسم مليار تريم ويذهب إلى جيوب الفساد ، قال في معرض كلامه (( قلنا اقسموا التمرة أثلاث بيننا وبين إخواننا في الشمال و العجلوم ( النواة ) لهم ، و أنا بغيت با وصّل هذا الكلام للرئيس ما قدرت )) ، في جولة الغرف تجد مجسم ضخم لشعار تريم عاصمة للثقافة الإسلامية ، و في الطريق إلى مدينة تريم تتزاحم صور الرئيس مع صور شعار تريم عاصمة للثقافة الإسلامية . مع مدخل تريم ، وأنا الذي سبق أن زرتها مرات بلا عد ، وجدت طريق مزدوج يقول بلسان الحال : أنا منجز جديد لتريم بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية ، ثم ظهر مجسم رمز لفن العمارة المشتهرة به تريم ، وغير بعيد يصافح ناظريك مجسم لسدة تريم ، ولمّا تدلف إلى الداخل يقابلك مجسم رابع أكثر ارتفاعاً جوار فرزة سيارات الأجرة ، ولما كنت قد زرت قصور تريم وسمعت عن ترميمها كان الشوق لرؤيتها بعد الترميم كبيراً ، وهذا ما تم برفقة الأستاذ علي عاشور بامعبد شاهدت أولاً قصر المنيصورة الذي غدا تحفة للزوار والنظار والى جانبه ساحة العروض المسماه ( منقذ بن يحيى ) التي كانت مجرد مسيال للسيول ( سائلة ) وأصبحت محفلاً للاحتفالات والأمسيات الرائعات ، ومن خلفها تبدو منارة المحضار منتصبة البنيان متعالية في شمم تحاكي الهمة العالية لأهل المدينة الفاضلة تريم ، ويحاكي بياضها صفاء قلوبهم وطيب معدنهم ، وعلى مرمى حجر أو هو اقرب ينتصب قصر عشه بحلته القشيبة الزرقاء المبيضة ، وكانت لنا وقفة تحت منارة المحضار التي كان لها نصيبها من الترميم وشاهدت أعمال الترميم متواصلة على الجزء الملاصق للمنارة من المسجد ، واتجهنا صوب قصر الرناد ووجدناه يكتسي أبهى حلة بل هي حلة لم يكتسيها في غابر أيامه ، دخلنا من بوابته الرئيسية و أعمال الترميم لازالت مستمرة خصوصاً في الأجزاء السفلى التي لازالت تحتاج إلى مزيد من الوقت ، حين أخذنا في الصعود قال الأستاذ علي بامعبد أنّ القصر كان قبل الترميم تسكن أعاليه الوحشة ، وأجزاءه السفلى تتوزعها مقرات للمجلس المحلي والأحوال المدنية و سجن المديرية بغرفه المتعددة التي تتصل بساحته التي أول ما تطأ قدماك من أرضية القصر ، و كلما أخذنا في الصعود كانت الدهشة تأخذ بمجامع خاطري حيث أنني أجد مساحته ومنافعه في اتساع وأرجائه في تمدد وتناسل وتكاثر ، انه قصور في قصر ، قصر فسيح الجنبات رحب الفضاءات يصعب استقصاء مكوناته ومنها باحات واسعة ، و في ناصية واحدة منها في الطابق الثالث منصة ، قصر واسع فسيح تستغرب وجوده في تريم وهي المدينة التي لم تكن سوى مركز إداري تابع للدولة الكثيرية التي كان مقرها مدينة سيؤن ، وقصر الكثيري منها على وجه التحديد ، والقصر يشبه إلى حد ما قصر سيؤن فله طريق خلفية واسعة مثل ما لقصر سيؤن ، وهو طوابق متعددة ـ أربعة ادوار ـ هي اقل من طوابق قصر سيؤن ولكن رحابة قصر تريم تفوق ما لقصر سيؤن منها ، و استمرينا في الصعود حتى بلغنا سطح القصر الواسع الذي توصل إليه ثلاثة أدراج ، وشاهدنا تريم من جهات القصر الأربع في منظر بديع ، وحين عدنا أدراجنا إلى الأسفل وجدنا الأخ احمد سالم بلهول المشرف على أعمال البناء مجهّزاً لربط من النقود وعلى كلً منها ورقة واسم صاحبها من البنائين و المزينيين ، سألناه قال في ظهر الخميس من كل أسبوع ندفع لهم أجرة أيام الأسبوع ، و اليوم خميس ، سألته عن أبعاد القصر فقال إنّ امتداد القصر من الشرق إلى الغرب 1400 متر أو 400 فوت ، وامتداده من الشمال إلى الجنوب 90 متر أو 265 فوت وقال لنا إنّ أعمال الترميم بدأت من عام 2007 وتوقفت سنة لانقطاع المخصصات ، وعرفت منه أنّ كل أعواد وأخشاب القصر هي من أعواد العلب ( السدر ) باستثناء الأبواب والنوافذ التي تم تحديثها جميعها ، كما اخبرنا أنّ أعمال الترميم شملت استكمال الدور الرابع الذي لم يتم استكماله زمن الدولة الكثيرية (( لعجز مالي )) ، وأشار إلينا بغرفة في القصر مهمة لم نرها أثناء الصعود ، هي غرفة جلوس السلطان ومنحوت بها تاج ، وقال احمد بلهو ل أنّ في القصر غرفة بها عشرون ( سهم ) سارية ، يستقبل فيها السلطان المعاودين ـ المهنئين ـ في الأعياد ، وخرجنا إلى أسفل باحثين عن تلك الغرفة حتى وجدناها وعلامتها التاج المجسّم ، و وجدنا كتابه مجسمة على الجدار بخط قديم تمكنا بعد محاولات لقراءة نصه بصعوبة وهو بيت من الشعر يقول :
قصور عز تسامت يزينها الإتقان
ضمن تاريخها بيت لك فيه البيان
ثم في الجانب الأيسر للتاج مكتوب : (( بني حصن تريم وشاده السلطان 62 148 650 316 181 سنة 1357 . كتبه عمر عبيد يعمر باحريش ))
فعرفت أنّ اسم السلطان مكتوب بطريقة حساب الجمل ، و حين عدت إلى المنزل شرعت افكك الترميز وبعد جهد جهيد وتجريب للاحتمالات توصلت أولاّ إلى أنّ حاصل جمع الأرقام الخمسة هو 1357 أي سنة إتمام البناء الواردة بوضوح ، وثانياً أنّ المكتوب هو ( محمد بن محسن بن غالب ) مع فارق (2) أي1355 فإذا جمعنا حروف الاسم محمد (112 ) و حروف محسن ( 158 ) وحروف بن (52 ) وحروف غالب (1033 ) نحصل على 1355 ، وهذا يعني أولاً أنّ حاصل جمع حروف اسم السلطان بطريقة حساب الجمل يساوي سنة إتمام البناء كرقم وهذا من التوافقات العجيبة النادرة وفي هذه الحالة يصح التجاوز عن الـ ( 2 ) الناقصة من اسم السلطان بحساب الجمل ، ويعني ثانياً أنّ اسم باني القصر هو محمد بن محسن بن غالب بن محسن الكثيري وليس محمد بن حسين كما هو مشهور، ومجموع أحرف حسين هو ( 128 ) أي هناك فرق عن قيمة اسم محسن مقداره (30 ) لصالح اسم محسن ، وقد وجدت اسم محسن هذا في كتاب ( صفحات من تاريخ حضرموت ) الآتي ذكره ، وتوافق سنة 1357 هـ تقريباً 1938م وكان يحكم الدولة الكثيرية في هذا العام 1357 السلطان علي بن منصور بن غالب بن محسن وتوفي في نفس العام وخلفه أخيه جعفر بن منصور إلى عام 1368 هـ وبالتالي فيمكن القول أنّ تريم انفصلت فعلاً عن الدولة الكثيرية بحكام من ذات الأسرة .
وكما يقول سعيد عوض باوزير في كتابه ( صفحات من تاريخ حضرموت ) فانه بعد وفاة السلطان الكثيري غالب بن محسن في رجب من عام 1287هـ تشبث أبناء ابنه محسن بن غالب (( بالاستقلال بحكم تريم )) وأضاف باوزير (( ويقول بعض المطلعين أنهم اجبروا في النهاية عن التنازل عن مطالبهم في الاستقلال في سنة 1945 م )) ،
ويعني هذا أنّ هؤلاء الأبناء استقلوا بحكم تريم لمدة لا تقل عن 15 عاماً ثم عادت لجسم الدولة الكثيرية في عهد السلطان جعفر بن منصور الذي خلفه الحسين بن علي بن منصور بن غالب وكان يحكمها عام 1376 الموافق لعام 1957 وهو (( في ريعان شبابه )) ، كما أشار باوزير الذي عاصر ذلك العهد ، ولعله كان آخر سلاطين الدولة الكثيرية ، وبهذا يزول استغرابي الذي أثبته أعلاه وها أنا أجد تفسيراً له : لم تكن تريم حين إعادة بناء قصر الرناد مركزاً تابعاً للدولة الكثيرية التي عاصمتها سيؤن إنما دولة مستقلة لها سلطانها وقصره وغرفته الواسعة التي يستقبل فيها المهنئين بالعيد .
كانت تريم عصر ذلك اليوم الخميس13 مايو2010 على موعد مع اكبر زفة عرائسية تشهدها المدينة بل و وادي حضرموت كاملاً ، إنه زفة 420 عريس هم عرسان مهرجان العفاف الثاني من وادي حضرموت من مجموع أكثر من 1100 عريس هم عرسان المهرجان الذي سيقام حفله العام بمدينة المكلا يوم الأربعاء 12 مايو ، وهم من ثمان محافظات : حضرموت ، مأرب ، الجوف ، المهرة ، شبوة ، أبين ، عدن ، لحج ، تعز .
أدى عرسان الوادي ومرافقيهم صلاة العصر ثم انطلقوا في زفة عرائسية فريدة تقلهم أكثر من عشرة باصات( 36 راكب ) وانطلقت الزفة من غربي المدينة متجه إلى شرقها وتحديداً إلى منقذ بن يحيى ، وقفت تريم ذلك المساء على رجلها تشهد ما لم تشهد من قبل ، وسار موكب الفرح الكبير في شوارع حاضنته الدافئة ، عاصمة الثقافة الإسلامية ، وحين اقترب الموكب من منصة الحفل اصطف أفراد عدد الشبواني على جانبي الطريق يضعون لمستهم التراثية البديعة على اللوحة القشيبة ، وبعد أن أخذ العرسان التي تكسي طلعاتهم حلة المسرة والسرور الألق والحبور بدأت عدد الشبواني تمر أمام المنصة الواحدة تلو الأخرى مقدمه كل منها أجود ما لديها في سيمفونية تراثية أصيلة مساهمة في صنع الفرح النبيل ، أنعم بها صنعة وانعم بصانعيها صُنّاع ، في تلك الأثناء كانت كاميرات الجولات ترتع في المشهد العبقري ينتقي كل منها أحلى لقطة لصديق أو قريب أو لفرح بلا حدود ، منارة المحضار كانت تتملئ فسيفساء الفرح و تتدفأ نغمات الابتهاج والى يسارها شاهدين : قصر عشه وقصر المنيصورة ، غاب كبار المسئولين كما هي عادتهم ، وحضر عضوين في مجلس النواب : عوض سالم باوزير واحمد حسن بكران باحويرث ، ومدير عام مديرية السوم سليم باشامخة ، ومدير عام مديرية ثمود سالم علي بن شحبل ، ومدير عام مكتب وزارة الشباب والرياضة بالوادي والصحراء علي عبيد بامعبد ، وأمين عام المجلس المحلي بمديرية سيؤن المهندس حسين سالم بامخرمة, وأمين عام المجلس المحلي بمديرية تريم المهندس محمد عوض عبيد هادي .
بعد أن استكملت عدد الشبواني معزوفتها تحدث إلى الحشد الغفير رئيس لجنة العلاقات بلجنة مهرجان العفاف الأستاذ صلاح مسلم باتيس رئيس مؤسسة البادية الخيرية الذي هنأ الجميع بـ (( هذا الفرح الذي طال انتظاره )) ووصف مهرجان العفاف المقام تحت شعار (( حتى تدوم المودة )) وصفه بأنه : (( الفكرة الرائعة التي اجتمع أهلها على البر والتقوى : عفة وطهر ونقى )) وقال إنّ ثمان محافظات (( من يمننا السعيد تحتفل بشبابها وفتيانها وفتياتها يشيدون صرح المحبة والمودة )) موصياً العرسان بقوله : (( نوصي العرسان أن يحفظوا الأمانة التي جعلها الله في أيديهم ، وان يبيّضوا وجوه أهل الإحسان ليكوّنوا أُسر تقية وينجبوا أبناء صالحين يرفعون رأس هذه الأمة الذي تطأطئ مرات على مر العصور )) ، ثم كانت للسلطة المحلية كلمة ألقاها أمين عام المجلس المحلي بمديرية تريم قال فيها : (( إنّ من اكبر بواعث السرور في النفس أن نحتفي هذه الليلة في هذه التظاهرة الفرائحية الكبرى )) وأضاف إنّ المهرجان (( يأتي في زمن ابتلينا فيه بالغزو الفكري والقنوات الفضائية والمواقع الالكترونية التي تدعوا إلى الإسفاف ومحاربة الأخلاق الفاضلة )) ومضى قائلاً إنّ المهرجان (( يأتي ليسهم في إعانة هذا الجيل على إكمال نصف دينه )) وتقدم بشكره لأهل الخير بقوله : (( نشكر كل القائمين والمحسنين والمتصدقين الذين ساهموا في إقامة هذا المهرجان ونتقدم بجزيل الشكر لكل الجمعيات والمؤسسات التي أسهمت في تنظيم هذه التظاهرة الفرائحية )) ، وكان ختام مسك الحفل أنشودة خاصة بالمناسبة من كلمات ماجد الجبري ولحن وأداء راضي بن منصور والمجموعة تقول مطلع أبياتها :
توجوا خضر الأماني باحتفالات الزفاف

توجوا الحلم بأحلى مهرجان للعفاف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق