الأربعاء، 28 يناير 2015

حياة جديدة

حياة جديدة بقلم : مرعي حميد / مفكر وباحث حياة بعيدة عن السياسة ، حياة بعيدة عن الصحافة ، بعيدة عن النكد و وجع القلب والعقل ، هذه الحياة الجديدة التي أحياها ، متحرراً عن الكتابة عن الشأن الجاري وإرهاقها النفسي و مُبتعداً عن الانهماك في متابعة مجريات الأحداث والتطورات ، أتابع الأحداث الهامة والمفصلية والمؤثرة على المشهد السياسي والعام ولكن أحتفظ برأيي و أكتب خلاصاتي لنفسي ، لقد أخترت بعد جهد وتأمل أولاً أن أعتزل السياسة وأنبذ الاهتمام بها والكتابة عنها من حياتي ، بما في ذلك العضوية في التنظيمات السياسية التي هي معوّق للتجديد الفكري في أحيان بما تضعه من التزامات ومقتضيات على المتبتّل في صومعة الفكر والتأمل ، كما أنها معوّق للتقبّل الثقافي لدى قطاع واسع من الناس ، و أخترت ثانياً عيش حياة الاستقلال التام متفرغاً للفكر بمعناه الواسع والتجريدي ، مع استثناء الفكر السياسي الذي أعتقد أنني قد منحته من الوقت والاهتمام والكتابة ما يستحقه و لا يوجد لدي مزيد من نقد و تنظير فكري سياسي وستكون خلاصته كتابين قادمين في القريب بإذن الله تعالى قد أودعتهما آخر وخاتمة قناعاتي على هذا الصعيد مع خلاصة لنتاج الفكر السياسي المعاصر . لقد قلت وكتبت وسأنشر في كتاب مهذب متكامل منتهى قناعاتي عن انشغال التيارات الإسلامية بالسياسة ولا مزيد لدي ، فإن اقتنعوا كان بها وإن لم يقتنعوا ستثبت لهم الأيام ـ مزيد اثبات ـ صواب ما ذهبت إليه ، مع محبتي لهم وتمنياتي لهم بالتوفيق والسداد و أن يحفظهم الله بحفظه و يكلؤهم بعينه التي لا تنام و أن يجعل كيد الخصم الجهول في نحره . لقد آن لي أن اتفرغ لأمرين : الفكر التجريدي الأقرب إلى الفكر والتفكير الفلسفي التأصيلي والتأسيسي ، و الإرشاد الروحي الذي وفقني الله لسلوك سبيله وفتح عليّ فيه الفتوحات المتتالية وأصبحت أجد نفسي في الانشغال به والاهتمام بمزيده بخلاف السياسة التي مناخاتها لا تحبذ سوى عقلية السرب والتعصب باقتناع أو من غير اقتناع وبالتالي القبول والرفض والإقبال والإحجام العملي والتثقيفي ، و قد لا تضع الرجل المناسب في المكان المناسب وقد لا تعمل بمنطق (( انزلوا الناس منازلهم )) ، قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن هذا المعنى : (( فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرفع متضع القدر فوق منزلته، ويعطى كل ذي حق حقه )) ، وجاء في [عون المعبود شرح سنن ابي داؤود ] (( أي عاملوا كل أحد بما يلائم منصبه في الدين والعلم والشرف، قال العزيزي والمُراد بالحديث الحض على مراعاة مقادير الناس ومراتبهم ومناصبهم وتفضيل بعضهم على بعض في المجالس وفي القيام وغير ذلك من الحقوق )) ، فلا تعمل بها تنظيماتها إلا بنرجسية وبانتقائية و من دون معايير حقيقية إلا ما وافق الهوى والطباع و التطبّع . إنّ وضع الإنسان في الموقع الذي يستحقه ويستحقه الموقع ، من دون تأخير عنه يمكنه من الإنجاز الأفضل بحسب قدراته ويجعل لذلك الموقع قيمته ، تماماً كما أنّ تقدمه غيره من غير استحقاق يمنع ذلك الغير من تحقيق الإنجاز الأفضل و يضع هذا المتقدم في حال لا يحمدها هو لما يشعر من ضعف حيلة ولما يعرضه من التهكم والانتقاد خصوصاً مع وجود الأفضل ولكن دون منزلته المُستحقة ، فحتى لو أراد مواكبة المنزل الذي وضع فيه فإن مؤهلاته وقدراته لا تمكنه من ذلك ، ولذا فإن من معايير التدبير الصحيح للأعمال والمهام (( وضع الرجل المناسب في المكان المناسب )) ، وهذا هو منهج ومعيار لوجود الحرص على العمل من عدمه ، الحرص على العمل أو الحرص على الهوى والأنانية و الشُللية ، وفي ذات الوقت فالحرص على الشرف والمكانة فطرة وغريزة في النفوس حتى يتنافس الخلق في الفضائل وجليل الأعمال بل ويتمكنون من ذلك بحسب استحقاقهم ومؤهلاتهم وتخصصاتهم ، وإظهار المنزلة والمكانة مما يريده الله تعالى وقد أسماها النبي صلى الله عليه وسلم : عاجل بشرى المؤمن ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم : (( عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ « تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ »)) ، ورواه الإمام أحمد في مسنده ، و يؤكد مشروعية هذا الحرص والرضاء به قول الله تعالى مخاطباً نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم : (( ورفعنا لك ذكرك )) في مقام الامتنان برفع الذكر . ومما يجر إلى اختلاط المعايير و حدوث الظلم والغبن بحق البعض التشابك والتخالط في التنظيمات و معاييرها ومراتبها ودرجاتها ، ولذا فإن هذا التخالط نكبة تُصاب بها التنظيمات تفقدها العديد من الكفاءات والرموز المبرزة أو على الأقل تحول بينها وبين استيعاب الطاقات والقدرات ويحدث عكس ذلك من هدر لها و إضاعة ، بالإضافة إلى الغبن الذي يحدث بحق ذلك البعض وقد أقبل بعزيمة وحماس واقتناع . مما يجعل البعض حريص على الابتعاد فليس من المُكث طائل الا الشعور بمزيد الغبن ومن موانع هذا الغبن في أحيان والمؤِسسة والمُنشئة للإدارة الناجعة للمهام والأفراد ضرورة الفصل بين التنظيمات ليتمكن كل منها من تطبيق معاييره واستيعاب ممكنات أفراده ، وكل هذا ممكن لو تم فقه الواقع ولو تمكنت التنظيمات من الحد من عقلية التغوّل والسيطرة والهيمنة لدى قياداتها بمختلف تدرجاتها ـ و بحُجج و اهيه و مردودة ـ و تتحول تلك الذوات والنرجسيات بمرور الوقت إلى قانون فوق القانون ومن دون معايير حقيقية . وقد لا يكون من وقع عليهم الغبن نادمين على ما حدث لهم ، بل ربما كان لسان حالهم : رُب ضارة نافعة ، ولكن العمل هو من يخسر ، ولا يُنكر هذا إلا مُكابر وواهم و قابع في برج عاجي ويفتقر لمزيد من الشعور بالمسؤولية على أقل تقدير ، و يبقى بيان مثل هذه الأمور متحتم عند كل حريص على التمام . إنني لأجد عناية الله قد حفت بي و أحاطتني و رعتني ـ و لكل من اسمه نصيب ـ وقادتني منذ منتصف الثمانينات تحديداً إلى عالم الفكر ، وزاد لها منذ عام 1988م عالم الروحانية والفقه في الدين ، دون أن انصرف إلى عوالم أخرى أو تخصصات تبعد بي عن أجواء الفكر والروحانية ، وإنني أعتقد أنّ حاجة المسلمين إلى العناية والاهتمام بالروحانية والدين الثلاثي المقامات (إسلام وإيمان وإحسان ) أكثر من حاجتها إلى الاهتمام والتعمّق والتفرغ للعمل السياسي والانشغال السياسي فهناك كثير ممن درسوا العلوم السياسية وممن سيدرسونها مستقبلاً في الكليات والأقسام المتخصصة بها، وهناك كثير من أصحاب التطلع السياسي باستحقاق أو بدون استحقاق وهم يجدون فرص ويستغلون ظروف في هذا المجال ، وفي نفس الوقت فإن الجانب الروحاني لا يكون إلا بتوفيق الله ومزيد فضله لا بالدراسة الجامعية ولا النظرية المنتظمة في المعاهد والدارات والأربطة ولا حتى بسلوك طريق الترقي الروحي في مقامات الدين بحد ذاته سلوك ولكن لا بد من توفيق الله وتيسيره ونفحاته ، وتلك هي أسباب من المهم و المُفيد الأخذ بها مع الحذر من الشطط ومن مخالفة الكتاب المجيد وما صح من كلام وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم و حذر ثالث من الوقوع أسر التفكير الخرافي أياً كان مصدره وصاحبه و (( كل يؤخذ من قوله ويُترك الا صاحب هذا القبر )) ـ كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس قاصداً بصاحب هذا القبر النبي صلى الله عليه وسلم ... وقولي هذا قد لا يفقهه الكثيرون ولكن أعتقد أنني لن أعدم من يفقهه فنحن في زمن قد ندر فيه الراغبين في سلوك مقامات الترقي الروحي الموصلة إلى عبادة الله كأن العابد يراه . لقد مررت بثلاث مراحل في حياتي أولها مرحلة الصبا حتى عام 1983 ، ثم مرحلة اعتناق الايدلوجية السياسية الاشتراكية من عام 1984 وحتى هداني ربي بفضله وكرمه في نهاية عام 1988، ثم مرحلة انتقالية قصيرة ، ثم مرحلة اعتناق ايدلوجية ( الإسلام السياسي ) منذ مايو 1991م وحتى 4 ابريل 2014م . وهذه هي المرحلة الرابعة التي ابتدأت في 5 أبريل 2014 وتكرّست في 20 يناير 2015 م حيث قررت اعتزال ما تبقى لي من انشغال بالسياسة واختيار التفرغ للتأمل وللفكر المستقل والتربية الروحية بصورة كاملة ونهائية مع اخراج ما قد سبق لي من بحوث وكتابات تقع ضمن المجال السياسي أو تقرب منه وتدور في فلكه ، ... أما فكرة حزب التمدّن الديمقراطي وفكر حركة التمدّن الديمقراطي العربية والتي قد دعوت لها و أنشأت لأجلها مجموعة على الفيسبوك فإنني أتركها للجيل الشاب وأتركها للزمن الذي هو جزء من العلاج ـ كما قال الإمام حسن البنّاء ـ فلعل من يأخذ بها وهي قد اكتملت التنظير وسيرفدها ، بإذن الله ، كتاب عن فكر التمدن الديمقراطي وكتاب ثان في السياسة سيخرج إلى المكتبات قريباً بإذن الله تعالى أعتبره خُلاصة لفهمي ومداركي ومعارفي السياسية المتولدة عن القراءة المتعمقة والمتابعة المكثفة والعضوية النشطة في ( أيدولوجيتين سياسيتين وحزبيهما [ الحزب الاشتراكي اليمني والتجمع اليمني للإصلاح ] ) والتي قد كانت كل منهما في وقتها عن اقتناع تام . وصدق الله تعالى المنعم المتفضل القائل : (( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ )) ، والقائل جل جلاله : (( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ )) ، والمقصود من الاستشهاد المعنوي لا الحسي . لقد آن لي أن أتفرغ لنفسي و لمشاريع كتبي الإسلامية في مجالات : السلوك والعقيدة و القرآنيات و السيرة ، مع اكمال وتكميل ما قد قطعت فيه الشوط الأكبر من المشاريع الكتابية و البحثية .. وأسأل الله تعالى أن يوفقني في هذه المرحلة ـ الحياة الجديدة ـ و أن يعينني على ما يحبه ويرضاه من محبوب الصنيع لديه و من نافع القول وسائغه .. أعزاءي وعزيزاتي على هذه الصفحة ... وبهذه المناسبة .. اعتذر منكم ولكم .. فلقد قررت ان احول جميع منشوراتي منذ اليوم الى صفحتي الجديدة ، ليس اضطراراً لكم لتسجلوا اعجاب ، ولكنني وجدت ان اعتزالي السياسة وتبني اتجاه دعوي خالص يجعل توقفي عن النشر هنا مهماً وضرورياً ... تقبلوا خالص معزتي وتقديري لكم .... والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .. 25 يناير 2015م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق